فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}.
قدمنا في سورة: البقرة أن قوله تعالى: {اسجدوا لآدَمَ} [البقرة: 34] محتم لأن يكون أمرهم بذلك قبل وجود آدم أمرًا معلقًا على وجوده. ومحتمل لأنه أمرهم بذلك تنجيزًا بعد وجود آدم. وأنه جل وعلا بين في سورة: الحجر وسورة: ص أن أصل الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه. قال في الحجر {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28-29] وقال في ص: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71-72] ولا ينافي هذا أنه بعد وجود آدم جَّددَ لهم الأمر بالسجود له تنجيزًا.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فسجدوا} محتمل لأن يكونوا سجدوا كلهم أو بعضهم، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم، كقوله: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] ونحوها من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة، {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن. وقد تقرر في الأصول في مسلك النص وفي مسلك الإيماء والتنبيه: أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل، كقولهم: سرق فققطعت يده، أي لأجل سرقته. وسها فسجد، أي لأجل سهوه، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] أي لعلة سرقتهما. وكذلك قوله هنا {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ} أي لعله كينونته من الجن، لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة، لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو.
ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن، وا، ه كان يتعبد معهم، فأطلق عليهم اسمهم لأنه تبع لهم، كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها. والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل وقد مسخه الله شيطانًا، أو ليس في الأصل بملك، وإنما شمله لفظ الملائكة لدخوله فيهم وتعبده معهم- مشهور عند أهل العلم. وحجة من قال: إن أصله ليس من الملائكة أمران: أحدهما- عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس. كما قال تعالى عنهم: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقال تعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]. والثاني-: أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن، والجن غير الملائكة. قالوا: وهو نص قرآني في محل النزاع. واحتج من قال: إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنيه من قوله: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ}.
[الحجر: 30-31] قالوا: فأخرجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنهمنهم. وقال بعضهم: والظظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص. ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع. قالوا: ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى: {كان من الجن} لأن الجن قبيلة من الملائكة، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم كما روي عن ابن عباس. والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة. ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود:
وسخر من جن الملائك تسعة ** قيامًا لديه يعملون بلا أجر

قالوا: ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158] عند من يقول: بأن المراد بذلك قولهم: الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوًا كبيرًا! وومن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة: الحسن البصرس، وقصره الزمخشري في تفسيره. وقال القرطبي في تفسير سورة: البقرة: إن كونه من الملائكة هو قول الجمهور: أن عباس، وابن مسعود، وابن جريج، وابن المسيب، وقتادة وغيرهم. وهو اختيار الشيخ أبي احسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر قوله: {إلا إبليس} اهـ. وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره: من أن كان من أشراف الملائكة، ومن خزان الجنة، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا، وأنه كان اسمه عزازيل- كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها.
وأظهر الحجج في المسألة- حجة من قال: إنه غير ملك. لأن قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ} [الكهف: 50] الآية، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج عن طاعة أمر ربه. والفسق في اللغة: الخروج. ومنه قول رؤبة بن العجاج:
يهوين في نجد وغورًا غائرا ** فواسقا عن قصدها جوائرا

وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه. فلا حاجة لقول من قال: إن عن سببية، كقوله: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [هود: 53] أي بسببه وأن المعنى: ففسق عن أمر ربه، أي بسبب أمره حيث لم يمتثله، ولا غير ذلك من الأقوال.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مرارًاز أي أبعد ما ظه منه من الفسق والعصيان، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم وحواء- تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلا! بئس للظالمين بدلًا من الله إبليس وذريته! وقال: {للظاليمن} لأنهم اعتاضوا الباطل من الحقن وجعلوا مكان ولايتهم لله ولا يتهم لإبليس وذريته. وها من أشنع الظلم الذي هو في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه.
كما تقدم مرارًا. والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقامن وتقديره: بئس البدل من الله إبليس وذريته. وفاعل {بئس} ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو {بدلًا} على حد قوله له في الخلاصة:
ويعرفان مضمرًا يفسره ** مميز كنعم قومًا معشره

والبدل: العوض من الشيء، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عداوة الشيطان لبني آدم جاء مبينًا في آيات أخر. كقوله: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا} [فاطر: 6]. وكذلك الأبوان، كما قال تعالى: {فَقُلْنَا ياآدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117].
وقد بين في غير هذا الموضع: أن الذين اتخذوا الشياطين أولياء بدلًا من ولاية الله يحسبون أنهم في ذلك على حق. كقوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]. وبين في مواضع أخر أن الكفارأولياء الشيطان. كقوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت} [النساء: 76] الآية، وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، وقوله تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] الآية، وقوله: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وذريته} دليل على أن للشيطان ذرية. فادعاء أن لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى. وكا ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شك! ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره. لا دليل عليها من نص صريح، والعلماء مختلفون فيها. وقال الشعبي: سالني الرجل: هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهدع! ثم ذكرت قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي} فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زجة فقلت: نعم. وما فهمه الشعبي من هذه الآبة من أن الذرية تستلزم الزوجة روي مثله عن قادة. وقال مجاهد: إن كيفية وجود النسب منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات: قال: فهذا أصل ذريته. وقال بعض أهل العلم: إن الله تعالى خلق له في فخده اليمنى ذكرًا، وفي اليسرى فرجًا، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانًا وشيطانة. ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معول عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة. فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية. أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح، ومثله لا يعرف بالرأي. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميري في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني: أنه خرج في كتابه مسندًا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ، من رواية عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاتكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فيها باض الشيطان وفرخ» وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه.
قال مقيدة عفا الله عنه: هذا الحديث إنما يدل على أنه يبيض ويفرخ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك. هل هي من أنثى هي زوجة له، أو من غير ذلك. مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلوا من احتمال. لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل. فيحتمل معنى باض وفرخ على سبيل المثل؛ فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل، لأن الأمثال لا تغير ألفاظها. وما يذكره كثير من المفسرين وغيرهم من تعيين أسماء أولالده ووظائفهم التي قلدهم إياها؛ كقوله: زلنبور صاحب الأسواق. وتبر صاحب الماصائب يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ونحو ذلك. والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط صاحب الأخبار يلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلًا. وداسم هو الشيطان الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم اله بصره ما لم يرفع من المتاع ما ملم يحسن موضعه يثير شره على أهله. وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. والولهان صاحب الطهارة يوسوس فيها والأقيس صاحب الصلاة يوسوس فيها ومرة صاحب المزامير وبه كان يكنى إبليس، إلى غير ذلك من تعيين أسمائهم ووزائفهم- كله لا معول عليه؛ إلا ما ثبت منه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ومما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تعيين وظيفة الشيطان واسمه ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن خلف الباهلي، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء: أن عثمان بن أبي العاص أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال:: يا رسول الله، إن الشطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك شيطان يقال له خنرب. فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثًا» قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني.
وتحريس الشيطان بين الناس وكون إبليس يضع عرشه على البحر، ويبعث سرايا فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة- كل ذلك معروف ثابت في الصحيح. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}.
تكررتْ قصة سجود الملائكة لآدم عليه السلام كثيرًا في القرآن الكريم، وفي كل مرة تُعطينا الآياتُ لقطةً معينة، والحق سبحانه في هذه الآية يقول لنا: يجب عليكم أنْ تذكّروا جيدًا عداوة إبليس لأبيكم آدم، وتذكروا جيدًا أنه أخذ العهد على نفسه أمام الله تعالى أنْ يُغويكم أجمعين، فكان يجب عليكم أن تتنبهوا لهذه العداوة، فإذا حدّثكم بشيء فاذكروا عداوته لكم.
والحق سبحانه وتعالى حينما يُحذّرنا من إبليس فإنه يُربِّي فينا المناعة التي نُقاومه بها، والمناعة أنْ تأتيَ بالشيء الذي يضرُّ مستقبلًا حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب خامد، وهذا هو التطعيم الذي يُعوِّد الجسم على مدافعة المرض وتغلَّب عليه إذا أصابه.
فكذلك الحق سبحانه يعطينا المناعة ضد إبليس، ويُذكِّرنا ما كان منه لأبينا آدم واستكباره عن السجود له، وأن نذكر دائمًا قوله: {أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 62].
فانتبهوا ما دُمنا سنُسيّر الجبال، ونُسوِّي الأرض، ونحصر لكلٍّ كتابه، فاحذروا أنْ تقفوا موقفًا حرجًا يوم القيامة، ثم تُفَاجأوا بكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وها أنا أُذكّركم من الآن في وقت السَّعة والتدارك، فحاولوا التوبة إلى الله، وأنْ تصلحوا ما بينكم وبين ربكم.
والأمر هنا جاء للملائكة: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة} [الكهف: 50] لأنهم أشرف المخلوقات، حيث لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمَرُون. وحين يأمر الله تعالى الملائكة الذين هذه صفاتهم بالسجود لآدم، فهذا يعني الخضوع، وأن هذا هو الخليفة الذي آمُركُم أنْ تكونوا في خدمته.
لذلك سمَّاهم: المدبّرات أمرًا، وقال تعالى عنهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] فكأن مهمة هؤلاء الملائكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم.
فإذا كان الحق سبحانه قد جنَّد هؤلاء الملائكة وهم أشرفُ المخلوقات لخدمة الإنسان، وأمرهم بالسجود له إعلانًا للخضوع للإنسان، فمن باب أَوْلى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه، وأن يجعلَه في خدمته، إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على مَنْ دونهم.
وقلنا: إن العلماء اختلفوا كثيرًا على ماهية إبليس: أهو من الجن أم من الملائكة، وقد قطعت هذه الآية هذا الخلاف وحَسَمَتْه، فقال تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] وطالما جاء القرآن بالنص الصريح الذي يُوضّح جنسيته، فليس لأحد أن يقول: إنه من الملائكة.
وما دام كان من الجن، وهم جنس مختار في أنْ يفعل أو لا يفعل، فقد اختار ألاَّ يفعل: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي: رجع إلى أصله، وخرج عن الأمر.
وقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] فهذا أمر عجيب، فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه وليًا من دون الله الذي خلقكم ورزقكم، فكان أَوْلَى بهذه الولاية.
و{وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف: 50] تدل على تناسل إبليس، وأن له أولادًا، وأنهم يتزاوجون، ويمكن أن نقول: ذريته: كل مَنْ كان على طريقته في الضلال والإغواء، ولو كان من الإنس، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُورًا} [الأنعام: 112] {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] أي: بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أنْ يسجدَ لأبيكم وَليًا، وتتركوا ولاية الله الذي أمر الملائكة أنْ تسجدَ لأبيكم. اهـ.